الخميس، 12 سبتمبر 2024

سجن الأحلام المحطمة بقلمي الشاعرة د سحر حليم أنيس سفيرة السلام الدولي

 

قصه  الجزء 2

 سجن الأحلام المحطمة

كنت في السابعة عشرة من عمري، لكنني شعرت وكأنني عشت ألف عام. كان ثقل العالم يجثم على كتفيّ الصغيرتين، وكأن كل أحزان الدنيا قد تجمعت في قلبي الغض. في تلك السن المبكرة، كنت أحمل هموماً تفوق سني بكثير. 

عندما تقدم صديق خالي لخطبتي، رفضت بحزم وإصرار. لم أكن أحلم بأن أصبح مجرد زوجة، كما هو متوقع من فتاة في مجتمعنا. بل كنت أتوق بشدة لإكمال دراستي ورسم مستقبلي بيديّ، دون تدخل الآخرين أو إملاءاتهم. كنت أطمح لما هو أبعد من حدود التقاليد المفروضة على الفتيات في مجتمعي. كانت أحلامي تتجاوز جدران المنزل، تمتد إلى آفاق أوسع من الحياة الزوجية التقليدية. 

في يوم من الأيام، زارتني قريبة لم أرها من قبل. جاءت بابتسامة عريضة وكلمات معسولة، مدعية محبتها واهتمامها بي. لكن عيناي الشابتان استطاعتا أن تخترقا قناع المجاملة هذا، فنواياها كانت واضحة كضوء النهار. أرادت تزويجي من ابنها الذي لم أره قط، ولم أسمع عنه من قبل.  

عندما علمت أنه سائق بلا تعليم، شعرت بالاختناق. كأن جدران حياتي بدأت تضيق من حولي فجأة، والهواء أصبح ثقيلاً بتوقعات وآمال لم أكن مستعدة لها. شعرت بأنفاسي تتسارع وقلبي يخفق بشدة، كأنني أغرق في بحر من الضغوط والقيود. 

بهدوء مصطنع، حاولت أن أتمالك نفسي وأخبرتها برغبتي في إكمال دراستي وعدم استعدادي للزواج. رأيت خيبة الأمل ترتسم على وجهها، وغادرت وهي تجر أذيال الخيبة. في تلك اللحظة، صليت من أعماق قلبي أن يكون رحيلها نهائياً، وأن تنتهي هذه المحاولات لتقييد حريتي وطموحاتي. 

مر عام كامل غرقت فيه بدراستي، محاولة التغلب على مخاوفي من المستقبل الغامض. كنت أتشبث بكتبي وأحلامي كما يتشبث الغريق بقشة. لكن، كما توقعت بقلب ثقيل، عادت المرأة. هذه المرة، جاءت بعرض مختلف - ابن أخيها، بعد أن تزوج ابنها. وصفته لي كرجل بسيط حاصل على دبلوم صناعي.  

بينما كانت تتحدث، كنت أشعر بقلبي يغرق أكثر فأكثر في بحر من اليأس. كلماتها كانت تمر من أذني دون أن تصل إلى عقلي، كأنها همهمات بعيدة في ضباب كثيف. 

أصرت على ضرورة مقابلته، واعدة بزيارة يوم الأحد المقبل. أومأت برأسي آلياً، كدمية تحركها خيوط غير مرئية، خائفة مما يبدو حتمياً ولا مفر منه. عندما حل الموعد المشؤوم، رأيته - رجل عادي المظهر، لا يثير في النفس أي شعور خاص. 

دخلت الغرفة متعمدة البساطة، بلا زينة أو تجمل، كما أنا في كل يوم من أيام حياتي العادية. لكن ما حدث كان صادماً - رآني وأعلن فوراً، بحماس غريب، رغبته بي دون أن نتبادل حتى كلمة واحدة. كأنني سلعة في سوق، يتم تقييمها بنظرة عابرة. 

في غضون أسبوع واحد فقط، وكأن الزمن يتسابق ضدي، تم ترتيب خطوبتنا. قالوا إنها ستستمر بضعة أشهر للتعارف، لكن في قرارة نفسي تساءلت - ما الذي يمكن معرفته حقاً في هذا الوقت القصير؟ كيف يمكن لشخصين غريبين أن يقررا مصير حياتهما في أسابيع معدودة؟

حاولت، في محاولة يائسة للتواصل، أن أتحدث معه. أخبرته عن ظروف عائلتي المعقدة، عن حياتي مع جدي بسبب انفصال والديّ. لكنه تجاهل كل ما قلته، كأن كلماتي كانت مجرد ضوضاء في الخلفية. كل ما قاله، بثقة غريبة، إنه يريدني فقط، بغض النظر عن أي شيء آخر. 

للحظة قصيرة، راودني أمل ساذج. فكرت أن هذا الرجل البسيط، بحياته البعيدة عن التعقيد، قد يكون مخرجي من الوحدة التي طالما عانيت منها. عندما وعدني والده بمعاملتي كابنة، شعرت بدفء غريب. فكرة وجود عائلة حقيقية، أب وأم وزوج، كانت مغرية لدرجة أعمتني عن الحقيقة المرة التي كانت تنتظرني. 

لكن صوت عمي الغاضب اخترق هذا الوهم. غضب من قبولي الزواج برجل فقير بعد رفضي لعريس ثري عرضه عليّ من قبل. صرخ بي محذراً: "ستكونين خادمتهم، أيتها الحمقاء!" كانت كلماته قاسية، لكنها حملت نبوءة صادقة لم أدركها إلا متأخراً جداً. 

رغم كل هذا، اتخذت قراري. ربما كان عناداً أعمى، أو ربما كان أملاً واهياً في الفوز بمعركة وهمية ضد توقعات المجتمع. في أعماقي، كنت أخشى - خوفاً حقيقياً ومريراً - أن أخسر نفسي في تسوية لم أفهمها تماماً، في حياة لم أكن مستعدة لها. 

بعد الزفاف، بدأت تظهر المشاكل كالفطر بعد المطر. لم تكن عائلته كما تخيلت في أحلامي الوردية. عاملتني أخته بقسوة وغيرة، تاركة لي كل الأعمال المنزلية بينما تتظاهر هي بأنها سيدة البيت. كانت تقرصني وتذلني أمام الآخرين، وأنا أبتلع دموعي وآلامي. أقنعت نفسي، في محاولة يائسة للتعايش، أن هذا مؤقت. أن كل شيء سيتحسن بعد زواجها وانتقالها من البيت. 

لكن بعد الزواج، بدلاً من أن تتحسن الأمور، ساءت بشكل لم أتخيله. ظل زوجي، إن صح تسميته بهذا الاسم، تحت سيطرة أمه وأخته. لم يكن لي رأي في أي شيء، حتى في أبسط قرارات حياتنا. أصبحت خادمة لا زوجة، أطبخ وأنظف وأعتني بكل شيء دون كلمة شكر أو تقدير. 

في لحظة من لحظات ضعفي، بعت ذهبي - الذي ادخرته من عملي  - لمساعدتهم في شراء أثاث لغرفة أخت زوجي. فعلت ذلك دون شكوى، مقنعة نفسي أنه من أجل الأسرة. لكنهم بالكاد لم يعترفوا بتضحيتي. بدأت المرارة تنمو في قلبي كنبتة سامة. 

عندما اقترحت، في محاولة يائسة لإنقاذ ما تبقى من كرامتي وزواجي، الانتقال لشقة خاصة بنا، غضبوا بشدة كأنني اقترحت جريمة. "كيف تجرؤين؟ إنه ابننا الوحيد!" صرخوا في وجهي، وكأن وجودي في حياته كان مجرد تفصيل ثانوي. 

في تلك اللحظة، أدركت بمرارة حماقتي المتأخرة. كان خالي محقاً في كل كلمة قالها. لقد استغلوا يأسي للحصول على عائلة، رغبتي العميقة في الانتماء. رأوا فيّ شخصاً مستعداً لتحمل أي شيء مقابل وهم الحب والقبول. 

بعد صراع مرير، انتقلنا أخيراً لشقتنا الخاصة. لكن هذا الانتصار كان أجوف وبلا معنى. زوجي بالكاد بقي معي، مفضلاً قضاء لياليه في منزل والدته. تركني وحيدة مع ابنتنا الصغيرة في شقة شبه فارغة، بلا أثاث يذكر سوى غرفة نوم اشتريتها قبل الزواج. 

اضطررت للعمل كمعلمة، آخذة ابنتي معي لعدم قدرتنا على تحمل تكاليف رعاية الأطفال. كل يوم كان معركة جديدة من أجل البقاء، من أجل توفير لقمة العيش وسط ظروف قاسية لم أكن مستعدة لها. 

في الليالي الطويلة، عندما يغرق العالم في الظلام والصمت، أجد نفسي مستيقظة، تثقل صدري أفكار مريرة. أدرك بألم أن هذه لم تكن العائلة التي حلمت بها طوال حياتي. بدلاً من الحب والدفء، وجدت نفسي في سجن من صنع يدي، محاطة بجدران من الوحدة والندم. 

كل ليلة، أتساءل كيف انتهى بي الأمر هنا. كيف تحول حلمي البريء بالحب والعائلة إلى هذا الكابوس اليومي؟ ما بدا ذات يوم وكأنه هروب من الوحدة والتوقعات المجتمعية القاسية، تحول إلى نوع جديد وأكثر قسوة من الأسر. 

إن القسوة التي تحملتها هذه التجربة - أن أُلقى في حياة لم أكن فيها أكثر من مجرد أداة، أو شيء يمكن استخدامه ثم التخلص منه - تقض مضجعي كل ليلة. أشعر بثقل كل لحظة عشتها، كل فرصة ضاعت، كل حلم تحطم على صخرة الواقع القاسي. 

وبينما أنظر إلى ابنتي النائمة بجواري، أتساءل عن المستقبل الذي ينتظرها. هل ستعيش نفس المأساة؟ هل ستقع في نفس الفخ الذي وقعت فيه؟ أصلي بصمت أن تكون أقوى مني، أن تجد طريقها نحو حياة أفضل، حياة تستحقها. 

في النهاية، أدرك بمرارة أنه لم يعد هناك مهرب من هذا الواقع المرير. لكنني أتشبث بأمل ضعيف - أمل أن تكون قصتي درساً لغيري، أن تكون تجربتي المريرة على انارة ولو جزءا بسيطا من طريق التقدير

بقلمي الشاعرة د سحر حليم أنيس 

    سفيرة السلام الدولي 

القاهرة 12/9/2024


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دنيا عجب بقلمي الشاعرة د سحر حليم أنيس سفيرة السلام الدولي

                                      دنيا عجب عجباً يا دنيانا العجيبةُ   كأنكِ سحرٌ في ليالي السُرُرِ   لم تتركي لي شيئاً من الأملِ   كأنكِ...