الثلاثاء، 10 سبتمبر 2024

في عمق ظلام الايام بقلمي الشاعرة د سحر حليم أنيس سفيرة السلام الدولي



 
قصه الجزء الاول 1

 في عمق ظلام الأيام، حيث لا ترى العين إلا السواد ولا تعرف الروح إلا الألم، تبدأ قصتي. ليست قصةً عابرة، بل هي حياةٌ غرقت في بحر من الدموع، حيث كان الحزن هو الرفيق الوحيد. طفولتي كانت أشبه بلحظات مسروقة من الوقت، مليئة بالخوف والوحدة. لم أشعر يومًا بالأمان أو الحنان الذي يستحقه كل طفل. كانت الأيام باردة، أطول من ليالي الشتاء، وكل لحظة تمر كانت تثقل قلبي بمزيد من الألم. 

منذ أن فتحت عيني على هذا العالم، شعرت بالغربة. لم يكن بيتنا بيتًا دافئًا كما كنت أسمع من الآخرين، بل كان باردًا كالجدران التي تحيط به. كنت أرى إخوتي الصغار يلعبون ويضحكون ببراءة، بينما كنت أراقبهم من بعيد، عاجزة عن الانضمام إلى عالمهم المليء بالسعادة. كانت تلك المسافة بيني وبينهم أكبر من أن تُعبَر، فلم أكن أشاركهم الفرح ولا الحنان. كانت نظراتي تائهة، وكأنني غريب في بيتي. حب العائلة كان أشبه بسرابٍ في الصحراء، كلما اقتربت منه، ابتعد عني أكثر. 

أتذكر يومًا لا يفارق ذاكرتي، يومًا مشؤومًا وأنا في التاسعة من عمري. مررت بجانب متجر، وهناك رأيت فستانًا أبيضَ معلقًا في الواجهة، بدا وكأنه قطعة من السماء، ناعمًا ورقيقًا. تمنيت لو أستطيع لمسه، شعرت أن ذلك الفستان يحمل بين ثناياه ما افتقدته في حياتي من نعومة وجمال. لكن حتى هذه الأمنية البسيطة كانت محرمة علي. نظرت إلى عائلتي، ألتمس منهم السماح لي بلمسه، بشرائه ربما، لكن الرد جاء قاسيًا كعادته. عوقبت لأنني تجرأت على الحلم، على الرغبة بشيءٍ خارج حدود المسموح. كان العقاب عقابًا للنفس وللروح، كأنني ارتكبت جريمة بطلب البساطة. 

لم أكن أملك من أمري شيئًا. كل ما كنت أرغب فيه كان محرمًا علي. حتى التعبير عن نفسي، عن أحلامي الصغيرة، كان ممنوعًا. كنت أحبس مشاعري، أكبتها حتى لا تُرى. صرختُ مراتٍ كثيرةً، لكن صرخاتي لم تكن تخرج إلى السطح، بل كانت تحبس داخل صدري، تتلاشى بين الجدران الصامتة التي تحيط بي. كيف يمكن لطفل أن يعيش حياةً دون أن يُسمع؟ دون أن يشعر بحرية التعبير عما في داخله؟ كنت أريد فقط أن أكون طفلًا مثل الآخرين، أعيش طفولتي بلا قيود، ألعب دون خوف أو حذر. لكن تلك الأمنيات تلاشت في واقع الحياة القاسية التي لم ترحم براءتي. 

مع مرور الأيام، أصبحت فكرة الهروب من هذا الواقع ملحة. كنت أحلم بالهرب بعيدًا عن كل شيء، لكن الهرب لم يكن ممكنًا. كان الأمر أشبه بمحاولة الهرب من ظلي الذي يلاحقني أينما ذهبت. في أحد الأيام، تأخرت في العودة من المدرسة. كانت المسافة طويلة، والطريق متعبًا. خطواتي كانت مثقلة بالتعب، كل خطوة كانت تحمل معها إحساسًا بالقلق. كنت أعلم أن العقاب ينتظرني إذا تأخرت، ومع كل لحظة تمر، كان الخوف يزداد. عندما وصلت إلى المنزل، وجدتهم ينتظرونني، والعقاب لم يتأخر. الضرب بالحزام على جسدي الهزيل كان أقسى مما يمكنني تحمله، لكنني لم أبكِ. لقد اعتدت على الألم، اعتدت على إخفاء دموعي، كأنني أصبحت آلة تمتص الألم دون أن تتأثر. 

بعد أن انتهى العقاب، لجأت إلى غرفتي. هناك، وجدت جدتي نائمة بجانبي. كانت هي الشخص الوحيد الذي شعرت معه بشيء من الطمأنينة. وجودها كان يخفف قليلاً من ثقل الأيام، رغم أنني كنت أعلم أن حنانها ليس كافيًا ليُشفي جراحي. أما أمي، فقد كانت مستلقية على السرير منهكةً، كما كانت دائمًا، لا تعيرني انتباهًا. لم تشعر بوجودي، ولم ترَ دموعي التي كنت أحاول جاهدًا إخفاءها. تساءلت بيني وبين نفسي، كيف يمكن لأمي ألا تلاحظ ما أمر به؟ كيف لا تشعر بألمي؟ ألم يكن واجبها أن تحميني من كل هذا الألم الذي يحيط بي؟ لكن الإجابة لم تكن واضحة أبدًا، وكلما تساءلت أكثر، زاد الألم في داخلي. 

مع مرور الأيام والسنوات، بدأ اليأس يتسلل إلى روحي. لم أعد أرى فائدة من الاستمرار في هذه الحياة. كل شيء كان يشير إلى أنني عبء على من حولي، وأن وجودي لا معنى له. في لحظة من الضعف، قررت أن أنهي تلك المعاناة بطريقتي. تناولت ما وجدته من أدوية في المنزل، آملةً أن يكون ذلك هو المخرج. استسلمت للغيبوبة، انتظرت النهاية بسلام. لكن عندما استيقظت، وجدت نفسي في مكان غريب، مركز للسموم. هناك، علمت أنني كنت على حافة الموت. خالتي كانت هي من نقلني إلى المستشفى في اللحظة الأخيرة، والطبيب أنقذ حياتي. لكنني لم أكن ممتنة لذلك، فقد كنت أتمنى لو أنني رحلت دون رجعة، دون ألمٍ آخر. 

العودة إلى الحياة لم تكن خيارًا بالنسبة لي، لكنها فُرضت علي. عدت إلى الواقع الذي لم يتغير، وكان الألم ينتظرني كما تركته. أصبحت أحاول التأقلم مع ما تبقى لي من حياة، أحاول النجاة بين الجدران القاسية. كنت أعمل على جمع المال لشراء لوازم دراستي، وكان التعليم هو الأمل الوحيد الذي أتمسك به. علمت أن الطريق لن يكون سهلاً، وأنني لن أجد فيه الخلاص السريع، لكنني كنت أعتقد أن التعليم قد يكون وسيلتي الوحيدة للهروب من هذا الواقع. لم يكن لدي رفاهية الحلم بمستقبل مشرق، لكنني كنت أتشبث بأي شعاع من الأمل. 

مرت السنوات، وكل يوم كان أشبه بنسخة مكررة من الألم. كنت أعيش مع خالي، الذي كان هو الآخر قاسيًا جدًا. ضربني وسرق مني مدخراتي القليلة، وكأنه يستمتع بتعذيبي. كلما حاولت الهروب من قسوته، كنت أجد نفسي أسيرًا له مجددًا. الحياة مع خالي كانت جحيمًا آخر، لكنه كان جزءًا من حياتي التي لا يمكنني الهرب منها. 

في أحد الأيام، جاء خالي ليخبرني بأن أحد أصدقائه يرغب في الزواج مني. لم أكن أتجاوز المراهقة بعد، لكن فكرة الزواج منه كانت مثيرة للاشمئزاز. رفضت فورًا، لم يكن ذلك الزواج سوى صفقة قذرة بالنسبة لهم، طريقة لتحقيق مصالحهم الخاصة. كنت أعرف أنني لن أسمح لأحد بأن يستغلني أو يستخدمني كأداة لتحقيق مصالحه. رغم أنني كنت مراهقة، إلا أنني كنت أشعر بالمسؤولية عن نفسي، ورفضت أن أكون ضحية مرة أخرى. 

في تلك الفترة، بدأت مشاعر الحب تتسلل إلى حياتي، لكنها كانت مشاعر مرفوضة من قبلي. كنت أخاف من أن أعطي قلبي لأحد، فخوفي من الألم كان يمنعني من الاقتراب من أي شخص. كلما حاول أحدهم الاقتراب مني، كنت أضع حواجز بيني وبينه. كنت أعتقد أن الحب لا يمكن أن يجلب لي سوى المزيد من الألم، وكنت متأكدة أنني لا أستحق السعادة. لذا، اخترت أن أبقى وحيدة، أعيش في عزلة مع نفسي، وأبتعد عن أي علاقة قد تؤذيني. 

طفولتي كانت مليئة بالجراح التي لم تندمل أبدًا. كبرت وأنا أحمل تلك الجراح معي، أحاول جاهدًة أن أجد مكانًا لي في هذا العالم. كنت أبحث عن بريق من الأمل في عيون أمي، لكنها كانت دائمًا بعيدة، غائبة عني وعن معاناتي. كنت أتساءل دومًا: هل سأظل غارقةً في هذا الظلام إلى الأبد؟ هل سأجد يومًا ما طريقًا إلى النور؟ كانت تلك الأسئلة بلا إجابة، ولا يزال الألم يعشعش في داخلي، كطفل تائه يبحث عن طريق لا يمكن العثور عليه. 

وها أنا الآن، بعد كل هذه السنوات، لا أزال أحاول النجاة.

بقلمي الشاعرة د سحر حليم أنيس 

سفيرة السلام الدولي 

القاهرة 10/9/2024

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دنيا عجب بقلمي الشاعرة د سحر حليم أنيس سفيرة السلام الدولي

                                      دنيا عجب عجباً يا دنيانا العجيبةُ   كأنكِ سحرٌ في ليالي السُرُرِ   لم تتركي لي شيئاً من الأملِ   كأنكِ...